أوقفت السلطات الأمنية في محافظة دهوك اثنين من المتهمين في واحدة من أكبر قضايا الاحتيال المالي في المنطقة، حيث تورّطا في مخطط احتيالي في تداول العملات الرقمية المشفرة بلغت قيمته أكثر من 15 مليون دولار أمريكي. وتبيّن أن الموقوفَين كانا يُديران شركة مشبوهة لتداول العملات الرقمية، من بينها البيتكوين BTC، قبل أن تنهال الشكاوى من سكان محليين خسروا مدخراتهم في تلك المنصة.
مصادر أمنية وصفت العملية بأنها الأولى من نوعها بهذا الحجم في الإقليم، فيما لا تزال التحقيقات جارية لكشف شركاء آخرين محتملين.
وتأتي هذه الفضيحة في وقت تُحكم فيه السلطات الكردية قبضتها على السوق الرقمي، إذ شكّلت حكومة إقليم كردستان مؤخرًا لجنة خاصة من وزارة الداخلية لتنفيذ عمليات إغلاق شاملة لجميع الشركات غير القانونية العاملة في مجالي الفوركس والعملات الرقمية، بناءً على توجيهات البنك المركزي العراقي.
خلف الأبواب المغلقة… تداول رقمي بلا قانون
رغم التحذيرات الحكومية الصريحة، يتواصل إقبال الشباب العراقي على التداول في العملات الرقمية المشفرة وعقود فروقات الفوركس CFD، مدفوعين برغبة عارمة في تحقيق أرباح سريعة تُنقذهم من واقع اقتصادي متردٍّ. غير أن هذه المغامرة، التي تجري خارج النظام المصرفي الرسمي، كثيرًا ما تنتهي بخسائر موجعة لا يمكن تعويضها قانونيًا.
الأزمات المتكرّرة التي عصفت بالاقتصاد العراقي، خصوصًا تذبذب سعر صرف الدينار والقيود المشدّدة على تداول الدولار، دفعت فئة واسعة من العراقيين إلى الدخول في عالم التداول الرقمي، دون إدراك حقيقي لمخاطره أو ضوابطه.
النتيجة: قصص مأساوية متكررة. الشابة سجا الساعدي (20 عامًا) خسرت نحو 3800 دولار بعد أن انساقت وراء وعود كاذبة لمنصة تداول مجهولة، بينما فقد عبد الأمير خليل (45 عامًا) أكثر من ربع مليون دولار لصالح شركة تداول اختفت فجأة، دون أن يتمكن من استعادة فلس واحد، رغم لجوئه لخبراء في تقنيات البلوكشين.
منصات تداول وهمية… وشبكات احتيال رقمية
تُحكم هذه الشبكات قبضتها على ضحاياها من خلال حسابات مزيفة على تويتر، ورسائل عبر تطبيقات تلغرام وواتساب، وتقدّم نفسها كشركات استثمارية قانونية، مدعيةً تقديم أرباح مضمونة.
وغالبًا ما تُستخدم في هذه العمليات عملات ميم وعملات رقمية بديلة يصعب تتبعها، ما يصعّب إثبات الجريمة لاحقًا.
البنك المركزي العراقي، في بيان أصدره عام 2022، أكّد أنه لا يُرخص لأي منصة لتداول العملات الرقمية أو الفوركس. محذرًا من الوقوع في فخ الإعلانات المضللة التي تُسوّق لنفسها عبر الإنترنت.
كما شدّد على أن هذه الأنشطة تقع تحت طائلة قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم 39 لسنة 2015، الذي يحظر استخدام المحافظ والبطاقات الإلكترونية في هذا المجال.
ورغم هذه التشريعات، يتفنّن بعض المتداولين في الالتفاف على القيود، عبر الشبكات الافتراضية VPN، أو من خلال وسطاء في دول مجاورة مثل تركيا والأردن والإمارات.
الخبراء: لا قانون يحمي المتداول… والوعي منعدم
الخبير الاقتصادي علي دادوش يشير إلى أن العراق يفتقر تمامًا إلى الإطار القانوني الذي ينظّم التداول الرقمي (مثل حال أغلب الدول العربية).
ويؤكد أن العملات الرقمية، بخلاف الأوراق المالية الخاضعة للبنوك، لا يمكن مراقبتها أو إيقاف تحويلاتها، مما يجعلها أداة مثالية للعمليات المشبوهة.
ويضيف: "قد يكون التداول الرقمي مجزيًا للمتداولين المتمرّسين، لكنه كارثي على المبتدئين. وللأسف، معظم من يدخل هذا العالم في العراق لا يملك الحد الأدنى من المعرفة المالية أو التقنية."
رؤية رسمية: العملات الرقمية تهديد أمني واقتصادي
وفي تفسير أوضح لموقف الدولة، يؤكّد البنك المركزي العراقي أن تداول العملات الرقمية المشفرة لا يُعد مخالفة فحسب، بل يُصنّف كجريمة تمسّ الأمن المالي. ويخضع مباشرة لأحكام قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
ويرى المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، أن هذه العملات تمثل "سلاحًا ذا حدّين". ويشدّد على أن خطرها يكمن في طابعها اللامركزي الذي يجعلها خارجة عن سلطة أي مصرف مركزي. مما يفتح الباب أمام استخدامها في غسل الأموال وتمويل الشبكات غير المشروعة.
ويشير صالح إلى أن ما يجعلها "مخيفة" هو غياب الرقابة، وسرعة التحويلات، وقدرتها على تخطي الأنظمة النقدية الحكومية بسهولة. ورغم اعترافه بأن بعض الدول بدأت بتنظيم تداول العملات الرقمية، فإنه يصرّ على أن العراق لا يزال يعتبرها من "الممنوعات المالية المطلقة".
من جهته، يرى الباحث المالي مصطفى حنتوش في تصريح لموقع الجزيرة الإخباري، أن إدماج هذه العملات في الاقتصاد العراقي غير مجدٍ. لأنها لا تحمل أي منفعة تنموية حقيقية، بل تهدد بتحويل السوق إلى مجال مضاربة مكشوف، لا يخضع لأي ضمانات، ولا ينسجم مع طبيعة اقتصاد يعتمد أساسًا على تصدير النفط واستيراد السلع بالدولار.
هل الحل في الحظر أم في تنظيم مجال العملات الرقمية؟
بينما تُشدد السلطات العراقية إجراءات الحظر، تتّجه دول عديدة نحو تقنين السوق الرقمية، مثل مصر وتركيا، اللتين بدأتا مناقشات جدية لوضع أطر قانونية تنظم التداول وتكافح الجرائم المالية المرتبطة به. أما الإمارات، فقد سبقتها إلى هذا الطريق، عبر تنظيم صارم يوازن بين الحرية الاستثمارية والحماية القانونية.
وفي العراق، يواجه المشرّعون مفترق طرق: هل يواصلون الحظر المطلق ويتركون السوق تتحرك في الظل؟ أم يفتحون الباب لتنظيم قانوني يقي المتداولين من الاحتيال، ويوفّر بيئة آمنة للاستثمار في الأصول المالية الرقمية؟
خاتمة
فضيحة دهوك لم تكن سوى رأس جبل الجليد. فغياب الرقابة، وندرة الوعي، ووفرة الطمع، خلقت بيئة خصبة للغش والاحتيال في عالم التداول الرقمي داخل العراق. ولا خلاص من هذه الحلقة المفرغة إلا بالتشريع والشفافية، وإلا فستتكرر المآسي، ويظل الشباب العراقي وقودًا لسوق لا يرحم الجاهلين بقوانينه.
إخلاء مسؤولية
جميع المعلومات المنشورة على موقعنا الإلكتروني تم عرضها على أساس حسن النية ولأغراض المعلومات العامة فقط. لذا، فأي إجراء أو تصرف أو قرار يقوم به القارئ وفقاً لهذه المعلومات يتحمل مسؤوليته وتوابعه بشكل فردي حصراً ولا يتحمل الموقع أية مسؤولية قانونية عن هذه القرارات.
