بعد سنوات من الحذر والتريّث، يبدو أن المغرب بات على أعتاب دخول مرحلة جديدة في مسار تنظيم العملات المشفّرة، مع اقتراب صدور إطار قانوني واضح ورائد على الصعيد العالمي. هذا التحوّل، الذي أعلنه والي بنك المغرب (محافظ البنك المركزي المغربي)، عبد اللطيف الجواهري، يأتي تتويجاً لشهور من التنسيق والمشاورات مع مؤسسات دولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وضمن نهج يسعى إلى توفير بيئة قانونية مرنة ومتوازنة، تجمع بين تشجيع الابتكار التكنولوجي وتحجيم المخاطر المحتملة.
أعلن عبد اللطيف الجواهري، محافظ بنك المغرب (البنك المركزي المغربي)، عن قرب الانتهاء من إعداد الإطار القانوني المتعلق بالترخيص للعملات المشفرة، مؤكداً أن مشروع القانون "أصبح جاهزاً".

ورغم امتناعه عن تحديد تاريخ رسمي لتقديم النص إلى البرلمان. فإن الإعلان يُعدّ خطوة مفصلية، إذ يهدف القانون المنتظر إلى ضمان شفافية المعاملات وحماية المستثمرين والمستخدمين، مع إبقاء فرص الابتكار مفتوحة.
ويأتي هذا الإعلان بعد سنوات من التحذيرات الرسمية من مخاطر التعامل بالعملات الرقمية. ليعكس تحولاً استراتيجياً في موقف المغرب، يهدف إلى مواكبة التطورات العالمية في مجال التكنولوجيا المالية والاستفادة من الفرص التي تتيحها العملات المشفرة.
وكان المغرب قد أعلن في عام 2017 أن التعامل بالعملات الرقمية مخالف للقانون. محذراً من مخاطر هذه العملات التي لا تتبناها الجهات الرسمية وتشكل خطراً على المتعاملين بها نظراً لعدم معرفة هوية أصحابها.
وفي مؤتمر صحفي عقده في العاصمة الرباط، كشف الجواهري أن الإطار التنظيمي الجديد تم إعداده بمساعدة تقنية من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وبمشاركة جميع الأطراف والوزارات المعنية.
وأوضح أن التشريع المقترح يتماشى مع أهداف وتوصيات مجموعة العشرين، التي دعت إلى معالجة نقص البيانات المتعلقة بالأصول المشفرة. مؤكداً أن المغرب سيكون من أوائل الدول التي تنظم التعامل بالعملات المشفرة وتوفر إطاراً واضحاً ودقيقاً للمستخدمين والمستثمرين.
تأثيرات عالمية وبيئة دولية متغيّرة
يرى الدكتور زكريا فيرانو، أستاذ الاقتصاد بجامعة محمد الخامس في الرباط في تصريح لبي بي سي العربية. أن هذا التحول في القرار المغربي يأتي استجابة لتغيرات هامة في التعاملات المالية الدولية.
ويوضح أن المغرب كان يواجه تحديات تتعلق بالمحافظ التي تحتوي على سندات أو عملات مشفرة أو أي أوراق مالية خارج البلاد، وهو ما كان غير مقبول من قبل السلطات المغربية.
يأتي هذا التطور في وقت تشهد فيه العملات المشفّرة عالمياً تحرّكات استثنائية. فالبيتكوين مثلاً، العملة الرقمية الأبرز، عرفت تقلبات هائلة في قيمتها.
وقد سجّلت، قبل أيام، ارتفاعاً قياسياً تجاوز 100 ألف دولار، مستفيدة من تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب التي وعدت بتبني سياسات صديقة للعملات المشفّرة، وتحويل الولايات المتحدة إلى "عاصمة رقمية" عالميّة.
وفي ظل هذا الزخم، لا يمكن تجاهل دور العملات المشفّرة في التحويلات المالية العابرة للحدود وتهريب الأموال. فقد أظهرت تحقيقات مغربية في وقت سابق تورط رجال أعمال ومسؤولين في فتح حسابات بمنصات تداول لإخراج أموال خارج البلاد. الأمر الذي عجل بالحاجة إلى إطار تقنيني واضح.
من ناحية أخرى، تدرس بعض الدول الكبرى إطلاق عملات رقمية موازية. في حين أن كبرى البورصات والمؤسسات المالية العالمية تسعى إلى تقليص الانكشاف على معاملات غير قانونية. وفي بريطانيا مثلاً، كشفت وكالات رقابة عن شبكات لغسل الأموال عبر العملات الرقمية. هذه الحوادث تدعم حجة المغرب في ضرورة تقييد الممارسات المشبوهة، والحرص على تطويع التقنيات الرقمية في إطار قانوني صارم.
عوائد اقتصادية وشمول مالي أوسع
من المنتظر أن يترك هذا التقنين أثراً إيجابياً على الأسواق الرقمية في المملكة. فالخبراء الاقتصاديون، ومنهم الدكتور زكريا فيرانو، أستاذ الاقتصاد بجامعة محمد الخامس بالرباط. يرون في هذا التوجّه وسيلة لتسريع دمج الاقتصاد المغربي بمنظومة المال الرقمية العالمية.
قد تتيح البيئة الجديدة فرصاً لتقليل الاعتماد على الأوراق النقدية التقليدية. وتمكين ما يُعرف بعملة رقمية وطنية قد تكون بمثابة "الدرهم الرقمي"، بما يشابه تجارب عالمية أطلقتها بنوك مركزية أخرى. وبذلك ستتمكن فئات واسعة من الولوج إلى خدمات مالية إلكترونية ميسّرة. مما يعزز الشمول المالي ويهيّئ مناخاً قد يسهم في تقليص الفقر وتحفيز النمو الاقتصادي.
وإلى جانب ذلك، يرى محللون ماليون أن وجود إطار قانوني واضح للعملات المشفّرة يشجع تدفق الاستثمارات المحلية والأجنبية نحو قطاع التكنولوجيا المالية. هذا التوجّه سيشكّل حافزاً لتنويع الأصول المالية المعروضة في السوق المغربية. واستقطاب مستثمرين يبحثون عن بيئة منظمة وآمنة، بعيداً عن الفوضى التي قد تصاحب التعاملات غير الرسمية.
مخاوف من خروج النقد الأجنبي وتراجع قيمة العملة المحلية
ويخشى بعض المحللين من تأثير العملات الافتراضية على الاقتصاد، خاصة فيما يتعلق بخروج النقد الأجنبي من البلاد عبر التجارة بالعملات الرقمية. وهو ما قد يؤثر سلباً على معروض النقد الأجنبي ويدفع إلى تراجع قيمة العملة المحلية.
رغم تحذيرات المؤسسات المغربية، وعلى رأسها مكتب الصرف، من مخاطر تداول العملات المشفرة أو ما سماه بـ"النقود الافتراضية"، واصل بعض المواطنين والشركات الانخراط في هذا السوق. وأكد مكتب الصرف مؤخراً أن التعامل بهذه العملات مخالف للقانون، ما يعرض المتعاملين لعقوبات.
وتكمن خطورة هذه العملات في كونها غير مدعومة من جهات رسمية، وتبقى هوية أصحابها مجهولة. وأشار المحلل الاقتصادي سامي أمين إلى أن غياب إطار قانوني زاد من مخاطر النصب والاحتيال. وفتح الباب أمام استغلالها في أنشطة غير مشروعة.
وأكد محافظ بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، أن الاعتراف بالعملات المشفرة قادم لا محالة. مشدداً على ضرورة وضع إطار قانوني ينظمها، لتفادي مخاطر تمويل الإرهاب وغسيل الأموال.
أبدى الجواهري حرصه على طمأنة الجميع بشأن المخاطر المحتملة. مشيراً إلى أن المشروع المنتظر "يؤطر هذه الأصول مع قدر معين من المرونة فيما يتعلق بالأصول المشفرة والعملات الرقمية، دون قتل الابتكار". وأضاف أن الإطار القانوني الجديد سيوفر إطار عمل واضح ودقيق لكل من مستخدمي العملات الرقمية والمستثمرين. مع مراعاة المخاطر الكامنة في هذا النوع من الأصول المالية.
خلاصة: مستقبل مشرق بانتظار التقنين
مع اقتراب المغرب من إقرار إطار قانوني يقنّن التعامل بالعملات المشفّرة، تبدو الصورة أشبه ببداية عهد مالي جديد. فالمملكة تتقدم نحو بيئة أكثر أماناً وشفافية، وتتطلع إلى أن تصبح نموذجاً يُحتذى في المنطقة. مستفيدة من خبرات دولية ونصائح مؤسسات عالمية.
قد لا يتوقف الأمر عند حدود الترخيص، بل يمتدّ إلى إطلاق عملات رقمية وطنية وتوظيف التكنولوجيا المالية في دعم الاقتصاد المحلي. وإن نجحت هذه الخطوة، فسيكون المغرب قد وضع لنفسه موطئ قدم مبكر في عالم مالي رقمي يتشكل ملامحه حالياً على امتداد الكوكب.
إخلاء مسؤولية
جميع المعلومات المنشورة على موقعنا الإلكتروني تم عرضها على أساس حسن النية ولأغراض المعلومات العامة فقط. لذا، فأي إجراء أو تصرف أو قرار يقوم به القارئ وفقاً لهذه المعلومات يتحمل مسؤوليته وتوابعه بشكل فردي حصراً ولا يتحمل الموقع أية مسؤولية قانونية عن هذه القرارات.
