يشهد النظام النقدي العالمي مرحلة تحوّل دقيقة، تتسم بإعادة هيكلة عميقة في مكوّنات احتياطيات البنوك المركزية، حيث لم يعد الدولار الأمريكي يحتكر موقعه التقليدي كعملة الاحتياط الأولى، بل بدأ يشهد تآكلًا تدريجيًا أمام صعود الذهب والعملات المحلية والأصول الرقمية. في هذا السياق، تزايد الإقبال العالمي على الذهب بصفة ملحوظة، فيما تتسارع جهود فك الارتباط بالدولار، لا سيما في آسيا، مع بروز دور متنامٍ للأصول الرقمية في قلب هذا التحول.
طفرة غير مسبوقة في مشتريات الذهب
شهد عام 2024 موجة تاريخية من شراء الذهب من قبل البنوك المركزية، حيث تخطّت المشتريات مستوى 1,000 طن سنويًا، وهو رقم يتجاوز ضعف المعدل السنوي المعتاد خلال العقد الأخير.
هذه الوتيرة رفعت حصة الذهب إلى نحو 20% من إجمالي الاحتياطيات الرسمية، وهو مستوى لم يُسجَّل منذ ستين عامًا، ما يعكس عودة الثقة بالمعدن النفيس كأداة للتحوّط والحفاظ على القيمة.

تقرير البنك المركزي الأوروبي أشار إلى أن ثلثي البنوك المركزية اتجهت إلى تعزيز احتياطاتها من الذهب خلال العام، بينما لجأت 40% منها إلى ذلك لأغراض تنويع أصولها بعيدًا عن الدولار والعملات الغربية. وقد اعتبر بنك هولندا المركزي أن حيازة الذهب تمثل منارة للثقة في أوقات الاضطراب الاقتصادي والسياسي، مؤكّدًا أن السبيكة الذهبية تحتفظ بقيمتها حتى في أكثر الأوقات تأزُّمًا.
التحوّل لا يقتصر على الكمّ فحسب، بل يرافقه قفزة في السعر. فقد تجاوز سعر أونصة الذهب 2,442 دولارًا في مايو 2025، محققًا أعلى مستوى في تاريخه، وهو ما عزّز القيمة الاسمية للاحتياطيات الذهبية المملوكة للبنوك.
الدولار يفقد موقعه المهيمن تدريجيًا
في مقابل هذا الصعود الذهبي، يشهد الدولار الأمريكي انحسارًا مطّردًا في موقعه داخل الاحتياطيات العالمية. إذ أظهر تقرير البنك المركزي الأوروبي تراجع حصة الدولار إلى 58% بحلول نهاية 2024، وهو أدنى مستوى له منذ عقود. أما اليورو، ثاني أكبر عملة احتياطية، فتراجعت حصته إلى نحو 20%، بعد أن فقد نقطة مئوية كاملة خلال عام واحد فقط.
هذا الانخفاض يُعزى إلى عوامل متعددة، من أبرزها صعود اقتصادات ناشئة تعتمد أكثر على العملات الإقليمية، فضلًا عن القلق المتنامي من استخدام الدولار كسلاح جيوسياسي، بعد قيام الغرب بتجميد 300 مليار دولار من احتياطيات روسيا في أعقاب الحرب على أوكرانيا.
وقد عبّر مسؤول في المركزي الأوروبي عن هذا التحوّل بالقول: "شهدنا في السنوات الأخيرة تحوّلات واضحة في تفكير البنوك المركزية حول العالم، وإعادة تقييمٍ لاعتمادها المفرط على الدولار في بناء احتياطاتها".
آسيا في طليعة تفكيك الارتباط بالدولار
برزت القارة الآسيوية، وعلى رأسها الصين والهند ورابطة آسيان، بوصفها مركز ثقل حركة فك الارتباط بالدولار. فقد وضعت آسيان خطة تمتد من 2026 إلى 2030 لزيادة استخدام العملات المحلية في التبادل التجاري وتسوية المدفوعات داخل الإقليم. الهدف من ذلك هو تقليص التعرض لصدمات تقلب أسعار الصرف، والتحوّل نحو منظومة مالية أكثر استقلالًا.
كما أبرمت دول آسيوية كبرى صفقات استراتيجية لتسوية وارداتها من النفط والغاز بعملات غير الدولار، مثل الروبل واليوان والدرهم الإماراتي، ووسّعت التعاملات الثنائية عبر أنظمة دفع بديلة.
وتُعد مبادرة مجموعة بريكس في تطوير نظام مالي موازي لسويفت جزءًا من هذا التحوّل الأشمل.
العملات الرقمية: بدائل ناشئة أم امتداد للهيمنة؟
في خضم هذا التحوّل، تسعى الأصول الرقمية إلى نحت مكانٍ لها. وقد برزت بيتكوين بوصفها "ذهبًا رقميًا"، خصوصًا مع تضاعف قيمتها السوقية لتتجاوز 2.1 تريليون دولار في منتصف 2025. إلا أن تقلباتها، إلى جانب ضعف البنية التنظيمية العالمية، تجعل منها حاليًا أصلًا للمخاطرة أكثر من كونها مخزنًا موثوقًا للقيمة.
في المقابل، تتنامى مكانة العملات المستقرة، وعلى رأسها USDT وUSDC، والتي تجاوزت قيمتها السوقية 250 مليار دولار. هذه العملات الرقمية المرتبطة بالدولار وسيلة رئيسية للتحايل على القيود المصرفية والعقوبات، ما جعلها أداة محورية في انتشار ما يُعرف بـ"الدولرة الرقمية". غير أنّ هذا الانتشار، في مفارقة لافتة، يُعزّز من حضور الدولار عالميًا بدلًا من تقليص الاعتماد عليه.
أما ريبل XRP، فهي تُقدّم حلاً تقنيًا للتحويلات الدولية عبر استخدام عملة الجسر الرقمية، وقد أطلقت منصات مخصصة للبنوك المركزية لتجربة إصدار عملاتها الرقمية السيادية باستخدام تقنيتها.
الذهب والعملات السيادية الرقمية: نحو نظام نقدي متعدّد الأقطاب
يبدو أن النظام النقدي العالمي في طريقه إلى التعدد، لا الإقصاء. فالذهب يستعيد مكانته كخزان للقيمة، والدولار لا يزال مهيمنًا لكن بدرجة أقل، فيما تسعى العملات الرقمية، الرسمية والخاصة، إلى أخذ موقعها في شبكة الاحتياطيات والتحويلات.
أكثر من عشرين بنكًا مركزيًا حول العالم بدأ في اختبار أو إطلاق عملاته الرقمية السيادية (CBDCs)، بهدف تعزيز الاستقلال المالي الوطني وتجاوز الهيمنة الغربية على البنى التحتية المالية العالمية، كشبكات سويفت وشركات البطاقات.
وفي حال تحقق هذا الانتشار، فقد نكون أمام مشهد مالي جديد: مزيج من الذهب الرقمي، والعملات الرقمية المستقرة، وعملات رسمية إلكترونية، تعمل ضمن شبكة متعددة الأطراف، وتقلل من الاعتماد على الدولار أو أي عملة واحدة.
اقرأ أيضا : هل يبدأ الركود الأمريكي؟ وكيف سيؤثر على بيتكوين والذهب؟
خاتمة: نحو تنويع الاحتياطيات في عالم مضطرب
ما نشهده اليوم ليس نهاية للدولار، بل بداية لتراجع احتكاره، وبروز قوى مالية جديدة تبحث عن توازنات أكثر أمنًا. وبين ذهب لامع، وعملات تقليدية، وأصول رقمية واعدة، تسعى البنوك المركزية إلى صياغة استراتيجيات احتياطية جديدة، تُمكّنها من مجابهة اضطرابات الاقتصاد العالمي وتحقيق الاستقرار النقدي طويل الأمد
إخلاء مسؤولية
جميع المعلومات المنشورة على موقعنا الإلكتروني تم عرضها على أساس حسن النية ولأغراض المعلومات العامة فقط. لذا، فأي إجراء أو تصرف أو قرار يقوم به القارئ وفقاً لهذه المعلومات يتحمل مسؤوليته وتوابعه بشكل فردي حصراً ولا يتحمل الموقع أية مسؤولية قانونية عن هذه القرارات.
